مخطط "المعمدوت"- تقسيم الأقصى وتكريس السيطرة اليهودية

لا يكاد ينقضي يوم دون أن يطل علينا تيار الصهيونية الدينية المتشدد بمسألة مستجدة ضمن الملفات الملتهبة التي يعالجها قادة هذا التيار، مثل قضية ضم الضفة الغربية والتحريض المستمر على استئناف العدوان على قطاع غزة. إلا أن أخطر وأهم الملفات التي أمسك بزمامها هذا التيار، عن طريق ما يسمى بـ "جماعات المعبد المتطرفة"، هو ملف المسجد الأقصى المبارك، الذي نشهد تجاهه يوميًا تقريبًا مخططًا جديدًا يستهدف تغيير الوضع الراهن فيه، بوتيرة متسارعة غير مسبوقة.
فمنذ أيام قلائل، تداولت وسائل الإعلام تطورات لافتة، تمثلت في إرسال عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست الحاليين والسابقين، المنتمين لأحزاب الليكود بقيادة نتنياهو، والصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش، والعظمة اليهودية بزعامة بن غفير، رسالة إلى أعضاء الكونغرس الأمريكي بغرفتيه: النواب والشيوخ، مطالبين بإصدار تشريع من الكونغرس يعترف بالحقوق الدينية الأزلية للشعب اليهودي في "جبل المعبد" (المسجد الأقصى المبارك).
تزامن هذا الخبر مع الاقتحامات الاستفزازية التي شهدها المسجد الأقصى خلال عيد البوريم في وضح نهار شهر رمضان الفضيل، في محاولة سافرة لإهانة المسلمين في المسجد، وإظهار الهيمنة الإسرائيلية المطلقة عليه، خاصة مع إصدار قوات الاحتلال قرارًا غير مسبوق بمنع الاعتكاف في ليالي الجمعة من شهر رمضان المبارك، خلافًا لما كان سائدًا في السنوات الماضية.
وفي أعقاب هذه التحركات الحثيثة، تم تسريب مشروع جديد تسعى جماعات المعبد المتطرفة لتنفيذه في المسجد الأقصى خلال فترة عيد الفصح العبري، الذي يحل بعد انقضاء شهر رمضان المعظم، والذي يعتبر أحد أهم مواسم الاقتحامات والاعتداءات السنوية على المسجد الأقصى، حيث تحاول هذه الجماعات تقديم القرابين الحيوانية في ساحاته. هذا المشروع، الذي بدأت أروقة تيار الصهيونية الدينية دراسة آليات تطبيقه، يحمل اسم مشروع "المعمدوت".
كلمة "معمدوت" مشتقة من عبارة وردت في التلمود مفادها: "لولا وجود المعمدوت لما قامت السماوات والأرض"، والمقصود بالمعمدوت هو نخبة من أحبار بني إسرائيل من سبطي يهوذا ولاوي، كانت تضطلع بمهمة جسيمة وخطيرة في عهد المعبدين: الأول والثاني، وفقًا للرؤية اليهودية، وهي السهر على إقامة جميع الطقوس الدينية التعبدية في المعبد بشكل دائم وغير متقطع.
وتزعم الأسطورة الدينية أن هذه المهمة كانت تعتبر مقدسة حتى في غياب المعبد الثاني بعد تدميره على يد الرومان، وذلك لأن التوازن في العالم بأسره، حسب هذه الأسطورة، يعتمد على خدمة المعبد باعتباره بيت الرب، سواء كان هذا البيت قائمًا أم مدمرًا، وتعود فلسفة هذا العمل إلى فكرة الصلاة والإخلاص من قبل الشعب الذي اختاره الرب للحفاظ على توازن الحياة على وجه الأرض. إذًا، ترى هذه الجماعات في هذه الوظيفة مهمة عالمية لا غنى عنها للحفاظ على كوكب الأرض من الفناء!
باختصار شديد، نحن أمام مجموعة من المتعصبين دينيًا الذين يعتقدون جازمين بأنهم محور الحياة في هذا الكون، ويرون أنهم لا يمثلون مصالحهم فحسب، بل يقدمون خدمة جليلة للعالم أجمع ويصونونه من خلال الحفاظ على رسالة الرب وإقامة شعائر عبادته كاملة في بيته، الذي تعتبره هذه الجماعات المسجد الأقصى!
وفي هذا السياق، أطلق أحد الأكاديميين المتدينين المتطرفين في إسرائيل، وهو البروفيسور هليل فايس من معهد السنهدرين (أي معهد كبار الحاخامات)، هذا المشروع، الذي تبنته على الفور ما تسمى "إدارة جبل المعبد" التابعة لتيار الصهيونية الدينية.
يقوم هذا المشروع على توفير مجموعة دينية متخصصة تسمى "الحرس"، يتم اختيارها من مختلف أنحاء البلاد بعد تقسيمها إلى 24 إقليمًا، كما كان الحال في عصر المعبد الأول، وفقًا لما ورد في نص التوراة في سفر "أخبار الأيام"، ويتم ترشيح شخصيات معينة من كل إقليم ليكونوا مندوبين عنه، على أن يكون كل شخص من هؤلاء "الكهنة" ممن يدعون انتماءهم لسبطي "يهوذا" و"لاوي"، بحيث يتم تدريب هذه المجموعة تدريبًا مكثفًا ثم تخصيصها لتولي مهمة القيام بجميع الطقوس الدينية المتعارف عليها في المعبد على أكمل وجه وبالزي الديني المعتمد لكهنة المعبد، كما هو منصوص عليه في النصوص الدينية اليهودية.
يتناوب هؤلاء "الحراس" على شكل فرق عمل تنشط في أوقات محددة ووفق جداول زمنية دقيقة، بحيث يلتزم كل "حارس" من هؤلاء الكهنة بخدمة "المعبد" في أرض المسجد الأقصى مرتين سنويًا لمدة أسبوع، وبالتالي يشارك الكهنة (من سبط يهوذا) واللاويون (من سبط لاوي) فعليًا في جبل المعبد، كما كانت الأمور تجري في الزمن الغابر.
ثم يتم تدريب كهنة آخرين على هذه المهمة، بهدف "استئناف" الحياة الدينية الكهنوتية اليهودية داخل المسجد الأقصى، كما كانت عليه في عصر المعبد في المخيال اليهودي الخالص.
يعلق القائم على هذا المشروع، البروفيسور هليل فايس، على مشروعه في مقدمته قائلًا: "هذا هو المشروع الذي يمكن أن يغير وجه جبل المعبد، فما بالك بالكهنة واللاويين يصعدون بثيابهم، واللاويين ينشدون كل يوم، والتكفير (أي القرابين) يتم كل يوم ببهجة، حتى لو كان خارج جبل المعبد مبدئيًا".
ما يرمي إليه فايس من تغيير وجه "جبل المعبد" بالفعل هو تبديل الوضع الراهن في المسجد الأقصى المبارك، ليصبح الوجود الديني اليهودي فيه مرتبطًا بالملابس والأدوات الدينية التي تجسدها الأساطير الدينية التي تؤمن بها هذه الجماعات، لا مجرد وجود فردي لمستوطنين يقتحمون المسجد بأي زي وبأي هيئة كانت.
وهو الأمر الذي لطالما نبهنا إليه باعتباره مرحلة لا بد أن يحاول الاحتلال تطبيقها، ألا وهي محاولة إدخال أدوات محددة إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء الطقوس الدينية فيه على النحو الذي تراه هذه الجماعات متبعًا وفقًا لأساطيرها الدينية.
الجديد هذه المرة هو ربط هذه العملية بتعيين طائفة من "السدنة" ورجال الدين بشكل رسمي، على غرار سدنة وحراس وأئمة المسجد الأقصى المبارك المعينين رسميًا في دائرة الأوقاف الإسلامية، ليغدو الوجود اليهودي في المسجد وجودًا رسميًا بمسميات ووظائف وملابس مميزة وأدوات محددة تستخدمها هذه المجموعات، ولا تصبح مسألة الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى مجرد فعل اعتباطي غير منظم، بل تتحول إلى عمل مؤسسي له أوقات "دوام" و"مناوبات" تحاكي الإدارة الإسلامية الرسمية للمسجد الأقصى وموظفيها، ويتحول هؤلاء المتطرفون إلى "موظفين" في مناصب دينية رسمية في المسجد الأقصى.
تتجلى خطورة هذا المشروع في كونه الخطوة التي كان المستوطنون يتوقون إلى تطبيقها لتحويل وجودهم في الأقصى إلى وجود دائم طبيعي غير عابر، وليس مجرد وجود يرتبط بساعات معينة لدخول المسجد أو حتى الدخول والخروج من مسارات محددة.
إذ سيتحتم على المسلمين في هذه الحال الإقرار بوجود إدارتين للمسجد الأقصى: واحدة إسلامية، والأخرى يهودية، مع ما يستتبعه ذلك من هيمنة الإدارة التي ترعاها دولة الاحتلال بطبيعة الحال على المسجد الأقصى وعلى حقوق المسلمين فيه.
وهذا تحديدًا ما جرى سابقًا في المسجد الإبراهيمي في الخليل عندما تم تقسيمه زمانيًا ثم مكانيًا، بحيث نشأت فيه إدارة يهودية رسمية موازية لإدارة الأوقاف الإسلامية، لينتهي المطاف في شهر رمضان من هذا العام برفض سلطات الاحتلال ببساطة تسليم المسجد للمسلمين في أيام الجمعة من شهر رمضان الفضيل، أي الانقلاب حتى على ما كان متبعًا وفق جداول التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الإبراهيمي للأسف، وكان هذا هو ثمن الصمت على هذه العملية.
قضية اقتسام السيادة على المسجد الأقصى لم تعد مجرد حلم بعيد المنال يراود هذه الجماعات، بل باتت اليوم تسعى جاهدة لتحويل هذا الأمر إلى واقع ملموس على الأرض، وهي تستند في مسعاها هذا إلى الصمت المطبق والاستسلام التام الذي نشهده للأسف حيال خطوات الاحتلال التي تتقدم بخطى ثابتة داخل المسجد الأقصى المبارك، وخاصة في شهر رمضان الفضيل، الذي جعل فيه الاحتلال وجوده داخل المسجد أمرًا طبيعيًا لدرجة أننا شهدنا اعتقالات تجري داخل المسجد الأقصى للمصورين والصحفيين على مرأى ومسمع من عشرات الآلاف من المسلمين، ودون أي رد فعل يذكر.
هذا الأمر هو ما يشجع الاحتلال بكل وقاحة على المضي قدمًا بخطوات إضافية دون أدنى اكتراث بالغضب الشعبي، الذي بات الاحتلال يتوهم بأنه نجح في ترويضه بعد صدمة الترويع التي نفذها عبر مجازره الإجرامية في قطاع غزة.
والواجب يحتم على الشعب الفلسطيني أن ينتفض ويزيل عن كاهله غبار هذا الصمت والرهبة من الآلة العسكرية للاحتلال، وأن يدرك أن الاحتلال لا يستطيع أن يفرض على الشعب إرادته إلا إذا رضي الشعب بذلك، فالأمر يتعلق بصراع إرادات، والمنتصر فيه هو من يتمسك بثوابته ولا يتزحزح عنها مهما بلغت الضغوط.